--------------------------------------------------------------------------------
تعتبر اللغة النوبية الحالية إحدى أعرق اللغات الحامية المنتشرة في أفريقيا والسودان على وجه التحديد ، ويرجع الباحثون تاريخ ظهورها في وادي النيل إلى القرن الثالث قبل الميلاد . و قد تم العثور على وثائق مكتوبة باللغة النوبية القديمة يرجع تاريخها للفترة ما بين القرنين الثامن والرابع عشر الميلادي ، ومعظمها عبارة عن ترجمات لنصوص مسيحية نقلا عن اليونانية .
ولم تكن اللغة النوبية هي أول اللغات التي استخدمت في المنطقة ، إذ كانت اللغة الفرعونية هي اللغة الرسمية ما قبل عهد مروي . و مع انقطاع الصلة بمصر تلاشت معرفة الناس باللغة المصرية وحلت محلها تدريجيا اللغة المروية التي لم يتمكن احد حتى الآن من فك رموزها . وقد كانت اللغة المروية تكتب بطريقتين : طريقة الصور ( الهيروغليفية ) ، والحروف ( الديموطيقية ) و كان عدد حروفها ثلاث وعشرين حرفا منها أربعة معتلة وتسعة عشر ساكنة .
أما اللغة النوبية فيرجع تاريخ ظهورها إلى الفترة ما بين القرنين الثاني قبل الميلاد و الثاني الميلادي عندما ضعفت مملكة مروي وبدأ نجمها في الأفول . ويعتقد بأنها جلبت للمنطقة بواسطة القبائل التي وفدت إليها من شمال غرب افر يفيا عبر كردفان عندما استوطنت بالمنطقة إبان سقوط مملكة مروي . وقد صارت اللغة النوبية في تلك الفترة اللغة الشعبية في مروي بينما كانت اللغة المروية اللغة الرسمية للبلاد ، ولكن بعد سقوط مروي حلت اللغة النوبية محل المروية وأصبحت اللغة الرسمية .
كانت اللغة النوبية في بدايتها لغة تحدث فقط ، ولكن مع دخول المسيحية في القرن السادس الميلادي وبروز الحاجة لترجمة نصوص الإنجيل قام النوبيون باستخدام الحروف القبطية ( ذات الأصل اليوناني ) لتدوين اللغة النوبية بعد أن أضافوا إليها ثلاثة أحرف، فصار عدد أحرفها أربعة وثلاثون حرفا ، فصارت لغة تحدث وكتابة .
وقد عايشت اللغة النوبية عدة لغات محلية وعالمية مختلفة منذ ظهورها ، كلغات البجا في شرق السودان واللغة الهيروغليفية ( المصرية القديمة ) والرومانية والإغريقية وحتى العربية ، فتأثرت بها وأثرت فيها أ إلا أنها نجحت في الصمود والاحتفاظ بملامحها الأساسية . ولعل اكبر دليل على قوة اللغة النوبية صمودها الطويل أمام المد الجارف للغة العربية منذ دخول الإسلام وحتى الآن ، بل أن اللغة النوبية غزت اللغة العربية بالعديد من المفردات النوبية التي عد لنا د. عون الشريف قاسم عددا كبيرا منها في مؤلفه القيم " قاموس اللهجات العامية في السودان " .
تقلص النطاق الجغرافي الذي تنتشر فيه اللغة النوبية اليوم حيث ينحصر استخدامها في المناطق ما بين أسوان ودنقلة فقط ، وسادت اللغة العربية بقية المناطق النوبية جنوبي دنقلا وحتى سوبا نتيجة لدخول عناصر عربية لتلك المناطق واستقرارها بها ، كما ضعفت قوتها قليلا أمام اللغة العربية التي غزتها بالعديد من المفردات العربية . وعموما لم تعد اللغة النوبية لغة رسمية حتى في مناطقها الأصلية حيث أصبحت تستخدم للتخاطب فقط .
تنطق اللغة النوبية اليوم بعدة لهجات أهمها :
- الكنزية : وهي لهجة الكنوز .
- الحلفاوية : وهي لهجة الحلفاويين ومناطق ارض الحجر .
- السكوتية : لهجة أهل السكوت .
- المحسية : وهي لهجة أهل المحس .
- والدنقلاوية : وهي لهجة الدناقلة .
وهناك من يقسمها إلى لهجتين فقط هما الكنزية وهي لهجة الكنوز والدناقلة ، والفديجا وهي لهجة الحلفاويين والسكوت والمحس .
وعموما ، فان هذه اللهجات متقاربة فيما بينها والفرق طفيف جدا وغير ملحوظ إلا للنوبيين أنفسهم ، خاصة لهجة السكوت و المحس و الحلفاويين ، حيث يتمثل الاختلاف في طريقة نطق الكلمات فقط . أما اللهجة الكنزية والدنقلاوية فهما تتشابهان كثيرا مع بعضهما البعض ، ولكنهما تختلفان كثيرا عن بقية اللهجات ، ويصل الاختلاف إلى مستوى المفردات المستخدمة ومعانيها مما يجعلها عسيرة الفهم حتى بالنسبة لبقية النوبيين من غير الكنوز أو الدناقلة .
والمثير للتساؤل هو هذا التشابه الكبير ما بين اللهجتين الكنزية والدنقلاوية بالرغم من المسافة الشاسعة التي تفصل بينهما ، وربما يرجع السبب إلى التمازج الذي حدث ما بين النوبيين في منطقة دنقلا و العناصر التي كانت تفد للمنطقة من جنوب مصر في عهود مختلفة من تاريخها . ولعل من بين هذه العناصر الدعاة المسلمين الذين كانوا يبعثون من قبل الدولة الفاطمية في مصر بغرض نشر الإسلام في مناطق النوبة . والجدير بالذكر أن هؤلاء الدعاة كان معظمهم من الكنوز ، وقد استقروا في منطقة دنقلا وما جاورها