السؤال في المسجد
وإعطاء السائلين
لقد مدح
الله فقراء المهاجرين وأثنى عليهم بالتعفف عن المسألة على الرغم من حاجتهم الماسة
لذلك، وعدم قدرتهم على السعي في طلب الرزق قائلاً: "لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ
اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ".
وبين أن
الفقراء صنفان:
1. فقراء
سُؤَّال.
2. فقراء
محرومون ولكنهم لا يسألون.
فقال: "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ" ولهذا يجب على مخرجي الزكاة والمحسنين أن لا يقتصروا على
السؤال، بل عليهم التفتيش والبحث عن الصنف الآخر العفيف المحروم ليوصلوا إليهم
حقهم وعليهم أن يسألوا من يعينهم ومن الفقراء المحرومين طلاب العلم الشرعي وعلى
وجه الخصوص الوافدون الغرباء منهم.
وفي المقابل
نهى الشارع الحكيم وحذر وتوعد السُؤَّال غير المحتاجين، عن الإلحاف والإلحاح في
المسألة، والاستشراف والتطلع إلى ما عند الناس. أما ما أتى المرء من غير مسألة فلا
حرج عليه في أخذه.
الأدلة على
ذلك
1. عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس
أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقلل أو يستكثر".
2. وعن ابن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم
حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم".
3. وعن ابن عمر
رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء،
فأقول: أَعْطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أَعْطه أفقر إليه مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خذه، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالاً فلا تتبعه
نفسك" زاد النسائي: "فتموله أو تصدق به".
4. وقال عمر:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُعطيتَ شيئاً من غير أن تسأل فكل
وتصدق".
5. وعن معاوية
بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
تلحفوا في المسألة فوالله، لا يسألني أحد منكم شيئاً، فتخرج له مسألته مني شيئاً
وأنا كاره فيبارك له فيما أعطيته".
6. وفي الموطأ
عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: (نزلتُ أنا وأهلي
ببقيع الغرقد. فقال لي أهلي: إذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله لنا
شيئاً نأكله. وجعلوا يذكرون من حاجتهم. فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فوجدت عنده رجلاً يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أجد، ما أعطيك"
فتولى الرجل عنه وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت! فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إنه يغضب على أن لا أجد ما أعطيه! من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد
سأل إلحافاً" قال الأسدي، فقلت: لـَلـِقحَة لنا خير من أوقية ـ قال: والأوقية
أربعون درهماً ـ قال: فرجعت فلم أسأله، فقـُدِِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك بشعير وزبيب، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله).
7. وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: (ليس المسكين بالطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن
المسكين المتعفف في بيته لا يسأل الناس شيئاً، تصيبه الحاجة).
8. وعن ابن
سيرين قال: (بلغ الحارث، رجلاً كان بالشام من قريش، أن أبا ذر كان به عوز فبعث
إليه ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر: ما وجد عبد الله رجلاً أهون عليه مني؟ سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل وله أربعون درهماً فقد
ألحف". ولآل أبي ذر أربعون درهماً، وأربعون شاة، وماهنان).
لهذا النهي
والتحذير فقد بايع بعض الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا أحداً
شيئاً قط، منهم أبو بكر، وحكيم بن حزام وغيرهما رضي الله عنهم.
من تحل له
المسألة
قولان لأهل
العلم، هما:
1. من كان عنده
أقل من قيمة ما يعادل مائة وعشرين جراماً من الفضة.
2. من لم يكن
عنده ما يغديه ويعيشه وهذا مذهب أهل الورع.
قال ابن عبد
البر المالكي رحمه الله: (من أحسن ما رُوي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال
وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه، ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل، وقد سئل عن
المسألة متى تحل؟ قال: إن لم يكن عنده ما يغديه ويعيشه، على حديث سهل بن الحنظلية.
قيل لأبي عبد الله: فإن اضطر للمسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر. قيل له: فإن
تعفف؟ قال: ذلك خير. ثم قال: ما أظن أحداً يموت من الجوع! الله ياتيه برزقه.
إلى أن قال:
قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئاً يسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال:
أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيع)
ما المراد
بإلالحاف في قوله تعالى: "لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا"
قولان كذلك:
1. لا يسألون
الناس البتة، أي أنهم متعففون عن المسألة تماماً فالتعفف صفة ملازمة لهم ـ وعلى
هذا جمهور المفسرين.
2. يسألون،
ولكن من غير إلحاف وإلحاح.
يروى أن
سائلاً قال: أسأل الناس إلحافاً، فيعطوني مكرهين، فلا يبارك لي ولا يؤجرون.
لا شك أن
هذه حال كثير من سُؤَّال اليوم والمعطين لهم.
ما المراد
بالإشراف المنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اتاك من غير مسألة ولا
إشراف فخذه"
قولان كذلك:
1. التطلع ورفع
الرأس إلى المطموع عنده وفيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض لذلك.
2. وفسره أهل
الورع ـ أحمد بن حنبل ـ: أن تستشرفه وتقول لعله يبعث إليَّ بقلبك. (قيل لأحمد: وإن لم يتعرض، قال: نعم، إنما هو بالقلب. قيل له:
هذا شديد! قال: وإن
كان شديداً فهو هكذا. قيل له: فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إليَّ شيئاً إلا
أنه عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إليَّ. قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن
تحتسبه. ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف).
قال أبو عمر
بن عبد البر: (ما قاله احمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد، وهو عندي بعيد، لأن
الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عما حدثت أنفسها ما لم ينطق به لسان، أو تعمله
جارحة. وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل به،
وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع).
السؤال
للعلاج والتداوي ولأجل مواصلة الدراسة
الراجح أن
التداوي ليس واجباً عند جماهير أهل العلم على المستطيع دعك من السؤال له، وكذلك
الأمر بالنسبة لمن يسألون للحصول على المصاريف الدراسية والجامعية ونحو ذلك.
أما بعد...
فبعد هذا
التمهيد، فهناك أمر عمت به البلوى، وفشا في مجتمعات المسلمين وطم، وتعدى ضرره وعم،
حيث طال ضرره بيوت رب العالمين، المساجد، أسواق الآخرة، ونزهة المتقين، لم يكتف
السُؤَّال بالطواف على الأسواق، وطَرْقِ الأبواب في الأحياء، والركوب في الحافلات
والنزول منها، وفي الشوارع والطرقات، حتى اتخذوا المساجد مرتعاً لهم، يصيحون فيها
ويتضجرون، ويشكون الخالق فيها للمخلوقين، ويشوشون على المصلين والتالين والذاكرين.
هذا بجانب
صعوبة التمييز بين المحتاجين الحقيقيين، وبين المحتالين المحترفين لذلك.
لا شك أن
هناك طائفة منهم محتاجة، ويجوز لها السؤال، لكن مع مراعاة أماكنه وأسلوبه.
فالمشكلة
الأساسية ليست في سؤال المحتاجين ولا في إعطائهم، سواء كان ذلك في المساجد أم في
غيرها، ولكن المشكلة في أمرين هما:
1. من اتخذ
السؤال حرفة ليحتال بها على جمع أكبر قدر من أموال الناس.
2. رفع الصوت
بالسؤال، والتشويش بذلك، الذي يذهب بخشوع وطمأنينة كثير من الناس.
فما حكم
السؤال في المسجد، وما حكم إعطاء السائلين فيه؟
ذهب أهل
العلم في ذلك مذهبين:
1. منهم من منع
من ذلك في المسجد، ومنع كذلك من التصدق على من يسأل بنفسه داخل المسجد، وأجازوا
ذلك خارج المسجد عند المداخل الخارجية، أو أن يطلب أحدهم من الإمام أن يسأل له إن
اقتنع بحاجته.
2. ومنهم من
اجاز السؤال ـ مع مراعاة آدابه ـ في المسجد لحاجة الناس لذلك ولأن المساجد يؤمها
أصحاب القلوب الرحيمة على الفقراء والمحتاجين.
مذاهب أهل
العلم وأقوالهم في ذلك
قال
الونشريسي المالكي رحمه الله تحت مبحث: [سؤال المساكين الصدقة في المسجد]: (وسئل ـ ابن لـُب ـ عن السؤال في المسجد، هل يجوز لهم ذلك،
وهل يعطون، أو يحرمون ردعاً لهم عن ذلك؟
فأجاب: وقد ورد النهي عن السؤال في المساجد لأنها سوق الآخرة، ولأنه
قد يشغب على من يكون في الصلاة. وقد قال بعض الفقهاء: ينبغي فإنه لا يترك، ولا
يفعل، وإنما أجازوا في المساجد أن يسألوا هم بأنفسهم، لحديث المصريين.
لكن اختار
بعض الشيوخ الماضين إباحة السؤال على الإطلاق لغلبة الحرمان على السُؤَّال في هذه
الأوقات، ومشاهد الصلوات مظنة الرحمات، ورقة القلوب الباعثة على الصدقات، فأبيح
للضرورة مخافة الضيعة).
وقال الإمام
النووي رحمه الله: (ولا بأس بأن يعطى السائل في المسجد شيئاً لحديث عبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل
منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟" فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا بسائل يسأل
فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه)..
وقال ابن
مفلح رحمه الله: (قال بعض أَصحابنا: يكره السؤال والتصدق في المساجد، ومرادهم
والله أعلم التصدق على السُؤَّال مطلقاً، وقطع به ابن عقيل، وأكثرهم لم يذكر
الكراهة. وقد نص أحمد رحمه الله على أن من سأل، قبل خطبة الجمعة، ثم جلس لها تجوز
الصدقة عليه، وكذلك إن تـُصُدِّق على من لم يسأل، وسأل الخاطب الصدقة على إنسان
جاز.
وروى
البيهقي في (المناقب) عن عليِّ بن محمد بن بدر قال: صليتُ يوم الجمعة فإذا أحمد
ابن حنبل يقرب مني، فقام سائل فسأل فأعطاه أحمد قطعة، فلما فرغوا من الصلاة قام
رجل إلى ذلك السائل، فقال: أعطني تلك القطعة فأبى، فقال: أعطني وأعطيك درهماً، فلم
يفعل، فما زال يزيده حتى بلغ خمسين درهماً، فقال: لا أفعل أرجو من بركة هذه القطعة
ما ترجوه أنت.
وقال أبو
مطيع البلخي الحنفي: لا يحل للرجل أن يعطي سُؤَّال المسجد.
وقال خلف بن
أيوب: لو كنتُ قاضياً، لم أقبل شهادة من تَصَدَّق عليه.
واختار صاحب
(المحيط) منهم إن سأل لأمر لا بد منه، ولا ضرر فلا بأس بذلك وإلا كره).
وقال الإمام
السيوطي رحمه الله في رسالة لطيفة له بعنوان (بذل العسجد لسُؤَّال المسجد):
(السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه، وإعطاء السائل في قربة يثاب عليها، وليس
يكره، فضلاً أن يكون حراماً، هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث.
ثم ذكر حديث
عبد الرحمن بن أبي بكر السابق.
ثم قال:
ومن أخذ
تحريمه من كونه مؤذياً للمصلين برفع الصوت فأكثر ما ينهض ذلك دليلاً للكراهة، وقد
نص النووي في شرح المهذب على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة في المسجد، ولم يحكم
عليه بالتحريم).
وقال ابن
قتيبة رحمه الله: (وكان الحسن البصري يطرد السُؤال يوم الجمعة ولا يرى لهم جمعة).
الخلاصة...
أولاً: لا
ينفك الحكم على السؤال في المسجد والتصدق فيه عن أسلوب السائلين وما يصدر منهم من
صياح وتشويش.
ثانياً:
لهذا يترجح لديَّ من أقوال أهل العلم السابقة أن السؤال داخل المسجد والإعطاء فيه
لا يجوز.
ثالثاً:
يمكن للمحتاجين أن يقفوا في المداخل الخارجية للمسجد، وليس الداخلية ويسألون.
رابعاً: من
كان محتاجاً وعنده ما يقنع بع الإمام فله أنْ يرفع أمره للإمام ليسأل له المصلين.
خامساً:
تشتد حرمة السؤال والإعطاء للسائلين، سيما المحترفين لذلك في صحن الطواف.
سادساً:
ينبغي للمسؤولين عن المساجد من الهيئات واللجان أن يمنعوا عن ذلك بالطرق المشاهدة
الآن.
سابعاً: عمدة المجيزين للسؤال في المسجد والإعطاء فيه، حديث عبد
الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما وفيه خلاف بين أهل العلم بين مصحح ومضعف له. فلا
يصلح للاحتجاج على مشروعية عمل في بيت من بيوت الله عز وجل حيث لم تـُبْنَ المساجد
له.
والله أعلم
بالصواب وله المرجع والمآب، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين وعلى آله
وأصحابه والتابعين.