أصبح من
بدهيات عصرنا أننا نعيش اليوم في عالم تشابكت فيه مصالح الأمم ؛ فلم يعد من الممكن
لواحدة منها بلغت من القوة ما بلغت أن تنعزل مستقلة عن غيرها مستغنية بنفسها .
فنحن إذن محتاجون إلى معالم نهتدي بها في تعاملنا مع غيرنا معاملة نحقق بها
مصالحنا ولا نساوم بها على ديننا . أول معلم يهدينا إليه كتاب ربنا هو أن معاملتنا
لغيرنا يجب أن تؤسس على الحقائق ، حقائق الدين المتلوة ، وحقائق الواقع المشهودة .
من أمثلة الحقائق الواقعية التي يخبرنا بها ربنا ويأمرنا أن نبني عليها تعاملنا قوله - تعالى - : ] إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ uot]فاطر : 6 )
. أي إنه إذا كان الشيطان عدواً فيجب أن تكون معاملتك له مبنية على هذه الحقائق ،
لا على أمور عنه تتوهمها . والحقائق الواقعية يمكن أن يدركها البشر إدراكاً
مباشراً ، كما
يمكن أن
يعرفوها بخبر الله - تعالى - في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأخبار الله - تعالى - صادقة ، والخبر الصادق هو المطابق للواقع ، وإلا فهو كاذب .
فما الحقائق المشهودة التي يخبرنا بها ربنا أو نشاهدها بأنفسنا عن غير المسلمين
ممن يساكنوننا هذه الأرض في عصرنا هذا ؟ أول ما نتعلمه من ديننا ويؤكده لنا واقعنا
أنهم وإن كانوا جميعاً غير مسلمين لكنهم ليسوا سواء في قربهم وبعدهم من حقائق
الدين ، وليسوا سواء في معاملتهم للمسلمين . وإذا كانت هذه حقيقة فيجب أن لا
نغفلها في تعاملنا معهم . يجب أن نعامل كل فرد أو جماعة منهم بحسب ما نعرفه من
حالهم . وهذا ليس إنصافاً لهم فحسب لكنه أمر ضروري لتحصيل كثير من المصالح ودفع
كثير من المفاسد . لكننا كثيراً ما نجنح إلى التعميم حيث يكون التمييز هو الأنسب ،
وكثيراً ما نذكر آيات تدل على هذا العموم ونغفل الآيات التي تخصصه أو تقيده .
من القريب
منا ومن البعيد من اليهود والنصارى وسائر المشركين ؟ سيسارع بعضنا إلى تذكيرنا
بمثل قول الله تعالى : ] وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [ ( البقرة : 120 ) . ويريد أن يستدل بهذا على أن ما قال
ربنا سبحانه ينطبق على كل فرد فرد منهم ، وأن معاملتنا لهم يجب إذن أن تكون كلها
مرتكزة على هذه الحقيقة ، لكن كتاب ربنا نفسه يدلنا على خطأ هذا الفهم . إن صيغة
الآية صيغة عموم ما في ذلك شك ، لكنها مخصوصة بآيات أخرى ، وبواقع نشاهده . فكتاب
ربنا يخبرنا ان بعض النصارى يسلمون . ] وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الحَقِّ uot]المائدة :
83 ) .
فهؤلاء
نصارى لكنهم لم يكونوا من النوع الذي لا يرضى عنا إلا إذا اتبعنا ملته ، بل اعترف
بأن ملتنا هي الحق ، وهداه ربه إلى قبول هذا الحق . وما أخبرنا به ربنا في القرآن
الكريم ما نزال نشاهده في أفراد من النصارى يسلمون ويبكون حين يسلمون . وما يقال
عن النصارى يقال أيضاً عن اليهود ، فإن منهم أيضاً من هداه الله تعالى إلى الإسلام
من أمثال الصحابي الجليل عبد الله بن سلام الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم
بأنه من أهل الجنة . وما يقال عن تلك الآية يقال أيضاً عن آيات أخرى عمومها
الظاهري
مخصوص . من ذلك قوله - تعالى - : ] وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ
ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [ ( التوبة : 30 ) .
كنت أفهم
هذه الآية الكريمة على عمومها الظاهري هذا ، فكتبت كتيباً باللغة الإنجليزية منذ
ما يقرب من ثلاثين عاماً استدللت فيه بها على أن اليهود يؤلهون عزيراً كما النصارى
يؤلهون عيسى . فعجبت عندما أخبرني الإخوة الناشرون بأنه جاءتهم احتجاجات من بعض
اليهود على ما نسبته إليهم ، وطالبوني بالدليل . ولم يكن لدي من دليل غير القرآن
الكريم . لكن أحد إخواننا السودانيين الدكتور إبراهيم الحاردلو ممن درسوا العبرية
وتاريخ اليهودية ، أخبرني أن أستاذه اليهودي نفسه كان قد استغرب مما ذكره القرآن
الكريم ، لكنه ذهب وراجع كتب تاريخهم ، ثم جاء ليقول للأخ إنه كان بالفعل هنالك
جماعة من اليهود في المدينة في ذلك الوقت
يؤمنون بأن
عزيراً ابن الله . وعندما راجعت كتب التفسير وجدت ما فيها مطابقاً لما قال ، فابن
كثير مثلاً يقول بعدما ذكر عن السدي قصة طويلة عن عزير : ( فقال بعض جهلتهم إنما صنع ذلك لأنه ابن الله ) . ويقول صاحب
التحرير والتنوير : (والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة وتبعهم
كثير من عامتهم ) ، كل هذا يدلك على أنه من الخطأ أن تفهم الآية الكريمة على
عمومها الظاهري فيظن أنها تنطبق على كل فرد ينتسب إلى اليهودية ؛ لأن من اليهود
المحدثين من لا يعلم أن بعضاً من سلفه كان يقول هذا . فكيف ينسب إليه قولهم ؟ وقد
أعجبني في هذا الصدد إنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية حين فرق بين من حرف ومن لم يحرف
من
أهل الكتاب
فقال : ( وعلى هذا فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب ، وفيهم آخرون لم
يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول ، لم يجب أن يجعل هؤلاء من
المستوجبين للوعيد ) [1] . بل إن في واقعنا اليوم ما هو أغرب من هذا ، فهنالك
اليوم آلاف مؤلفة ممن ينتسبون إلى النصرانية في أمريكا لكنهم لا يؤمنون بأن عيسى ابن
الله !
أسوق كل هذا
لأقول إننا يجب أن نعامل الناس بحسب الحقائق التي نعرفها عنهم ، ولا نلزمهم
باعتقاد ينكرونه مستدلين على ذلك بالقرآن الكريم . كيف أفعل مع إنسان يزعم أنه
نصراني لكنه يصرح بأنه لا يعتقد بأن المسيح ابن الله ؟ هل أقول له ما دمت نصرانياً
فلا بد أن تؤمن بأنه ابن الله ؛ لأنه هكذا أخبرنا كتاب ربنا ؟ في مقابل هذا إذا
وجدت من يزعم أنه يهودي أو نصراني لكنه لا يؤمن بضرورة الذبح مثلاً فلن آكل طعامه
؛ لأن طعامه إنما أحل لنا بسبب أنهم يذبحون . أما الذي نعلم أنه لا يذبح فطعامه
حرام حتى لو كان مسلماً ؛ فكيف إذا كان يهودياً أو نصرانياً ؟ وبمثل هذا السبب لم
يعامل المسلمون نصارى بنى تغلب معاملة النصارى ؛ لأنهم
كما قال
عنهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - : ( لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا
بشرب الخمر ) [2] .
نعم إذا
وجدت فرداً أو جماعة من اليهود أو النصارى يتصفون بمثل صفات اليهود والنصارى الذين
قال الله - تعالى - عنهم إنهم لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم ، أو أنهم شديدو
العدواة لنا ، فلن أصدق إنكارهم لهذا ؛ لأن هذه حالات قلبية يمكن أن يكونوا فيها
كاذبين . بل لا بد أن يكونوا كاذبين إذا كان حالهم الظاهري يشبه حال الذين تحدث
عنهم القرآن الكريم . إذا أردنا أن نعامل غيرنا معاملة منصفة ، والمعاملة المنصفة
هي دائماً في مصلحتنا ، فلا بد لنا من معرفة مثل هذه الحقائق وتذكرها والالتزام
بها في معاملتنا لهم ولا سيما في القضايا الكبيرة مثل قضية فلسطين . إن بعض اليهود
وإن كانوا قلة هم معنا في عداوتهم للحركة الصهيونية ، بل وفي إنكارهم لقيام دولة
إسرائيل ؛ فهل من الإنصاف لهم ، وهل من مصلحتنا أن نقول لهم إننا لا نفرق بين
يهودي وصهيوني في حربهم لنا ؟ إن من الأمريكان ومن الأوروبيين من يهودهم ونصاراهم
ومشركيهم من هم مع الحق الفلسطيني وضد الاعتداء الصهيوني ، وهم
لا يستخفون
باعتقادهم هذا بل يستعلنون به كلاماً وكتابة ومواقف عملية ، أفليس من حقهم علينا
أن نشكرهم على هذا ، بل ونكافئهم إن استطعنا ؟ ثم أليس من مصلحتنا أن تنشق صفوف
المعتدين ويكثر عدد المنصفين ؟ كيف إذا سمع أمثال هؤلاء أن بعض المتدينين منا هم
الذين لا يقدرون لهم هذا المعروف ، وهم الذين لا يميزون بين معتد ومنكر للاعتداء
ومحايد لا هو معنا ولا ضدنا . أليس في هذا فتنة لهم ؟ ما هكذا كان يفعل رسولنا الكريم صلى
الله عليه وسلم . ألم يقل يوم بدر عن أسارى المشركين : ( لو كان المطعم بن عدي
حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له )
كان سيفعل
هذا مكافأة له لأنه كما قال الحافظ ابن حجر : ( كان من أشد من قام في نقض الصحيفة
التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب ) [3] .
إن الذي
ينبغي أن نتذكره نحن المسلمين أن ديننا يخبرنا بأن كل إنسان يولد حين يولد على
الفطرة ، وأن الشر الذي يتلبسه طارئ عليه . والشر الطارئ يختلف قوة وضعفاً من
إنسان لإنسان . وقل أن تجد إنساناً فقد كل الخير الذي فطره الله عليه ، فعاد لا
يرى المعروف إلا منكراً والمنكر إلا معروفاً . كلاَّ ؛ فعامة الناس فيهم شيء من
نبض الفطرة ؛ ولذلك يسلم بعضهم حين تتبين له الحقيقة . ولذلك تجد فيهم الكريم
والمنصف والشجاع في قول الحق . فعلينا أن نستثمر هذه الصفات الحسنة في الناس
ونجازيهم عليها ؛ فذلك خير لنا ، وهو من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم .